تتمتع مصر بموقع جغرافي مميز مكنها من لعب دور مهم في صياغة السياسات الإقليمية والدولية فى فترات الحرب والسلام، ومنحها مكانة متفردة فى العالم بملتقاه الأسيوي والأفريقي، وجعلها من اللاعبين الكبار بمنطقة الشرق الأوسط منذ عقود طويلة.
تقع مصر في موقع القلب من العالم، فهي نقطة تلاق قارات العالم القديم: أفريقيا وأسيا وأوروبا، كما تطل على بحرين هما: البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، وتشرف على خليجين هما: خليج السويس وخليج العقبة، وعلى أرضها تجري قناة السويس أحد الممرات المائية الدولية، كما يتدفق عبرها نهر النيل الذى يمثل شريان الحياة لمصر، ويحظى بمكانة كبيرة في وجدان الشعب المصري.
هذا الموقع المتفرد حفز كثير من العلماء والمفكرين على شرحه وبيان أهميته وخصائصه وأثره وتأثيره على مصر فى الداخل والخارج. ويمثل كتاب الدكتور جمال حمدان شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان، دليلا قويا فى هذا السياق. لقد استفاض المؤلف فى المجلدات الأربعة في شرح شخصية مصر الاقليمية والبشرية والزمانية والمكانية. ولخص ذلك في قوله "لمصر شخصيتها الإقليمية التى تضفي عليها تميزها وانفرادها عن سائر الدول في الأقاليم المختلفة، أنها فلتة جغرافية في أى ركن من أركان العالم". وحدد أهمية الموقع ومكانته قائلاً "إن عبقرية مصر الإقليمية تستند الى محصلة التفاعل بين بعدين اساسيين هما الموضع والموقع، حيث يقصد بالموضع البيئة بخصائصها وحجمها ومواردها في ذاتها، وهي البيئة النهرية الفيضية بطبيعتها الخاصة. أما الموقع فهو الصفة النسبية التى تتحدد بالقياس الى توزيعات الارض والناس والإنتاج وتضبط العلاقات المكانية التى ترتبط بها".
لم يكن تأثير الموقع المتفرد الذى تتمتع به مصر مقتصرا عليها كأرض فقط، بل امتد ذلك إلى تكوين الإنسان المصري الذى ظل على مر العصور متمسكا بقيم الاعتدال والانفتاح على الأخر، والتفاعل الخلاق مع سائر الأمم والثقافات من أجل تحقيق الأمن والسلام ليس لوطنه فقط بل للإنسانية جميعا.
من هذا المنطلق تبوأت مصر مكانتها الإقليمية والدولية المتميزة، والتي أتاحت لها القيام بدور مؤثر وفاعل، لا يمكن إغفاله أو التغاضى عنه، استمدته عبر مقومات رئيسية من أهمها الامتداد الطبيعى لمصر عبر القارات، فهي تقع في شمال شرق قارة أفريقيا، ولكنها أيضا ذات امتداد أسيوي حيث يقع جزء من أراضيها داخل قارة آسيا وهي شبه جزيرة سيناء. هذا الامتداد جعلها بمثابة البرزخ الذى مرت عبره اراضيها الديانات السماوية، كما كانت وستظل الملتقي الرئيسي للتفاعل الثقافي والفكري بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب. كما كانت مقرا لحضارات متواصلة بدءا من الفرعونية، مرورا بالإغريقية والرومانية وانتهاءً بالحضارة القبطية والإسلامية. إضافة الى انها أقامت أول جسور مع الحضارة الأوروبية الحديثة.
كذلك مثلت القدرات البشرية عاملا رئيسيا في استمرار هذا الدور، فمصر كانت أول مجتمع مدني في تاريخ البشرية، تشكلت فيه أمة نشأ بين أفرادها نوع من التفاهم والانسجام. وكان للقدرات العسكرية التى تتمتع بها مصر دورها فى صد هجمات الغزاة والمعتدين على مر التاريخ، وفي الدفاع عن الاسلام والعروبة. كذلك ساندت مصر جميع حركات التحرر في الوطن العربي، ودافعت عن قضايا العرب ومشكلاتهم، ولعل العبء الذى تحملته مصر فى الدفاع عن القضية الفلسطينية منذ بدايتها خير دليل على ذلك. كما تحملت مصر مسئولية نشر التعليم فى معظم أجزاء العالم العربي. فى الوقت نفسه اضطلعت بمسئولية السعي نحو الاستقرار والسلام فى الشرق الأوسط مجسدة قيم الاعتدال والتسامح والتعايش التي تمثل جوهر تعاليم الاسلام السمحة.
لقد أصاب الأديب الكبير عباس محمود العقاد كبد الحقيقة فيما يتعلق بأهمية مكان مصر ومكانتها، حيث كتب مقالا بمجلة الهلال حمل عنوان" نحن المصريين" قال فيه "نحن في بقعة من الأرض لا يستقر العالم إذا اضطربت، ولا يضطرب العالم إذا استقرت، ولم يحدث في الزمن الأخير حدث عالمي قط إلا كان رده وصداه على هذه البقعة من الكرة الأرضية. فإذا ملكنا إرادتنا في هذه البقعة فهى حاجز الأمان بين المشرق والمغرب، وبين المتنازعين في كل وجهة، وعندنا مصفاة الثقافات والدعوات. فإذا استخلصنا شيئا من الغرب وشيئا من الشرق، فليس أقدر منا على تصفية الخلاصة لبنى الإنسان جميعا في ثمرة لا شرقية ولا غربية تضئ ولم تمسسها نار".