إذا كانت أحوال عالمنا في تلك الأيام تظهر وكأنها تنزلق على منحدر لا خاتمة له، فلا تبتئس؛ فربما لا تكون الموضوعات بالسوء الذي تظنه. يوميء بحث حديث نُشر في 29 حزيران الزمن الفائت في دورية "ساينس" Science إلى أنه في الوقت الذي تصبح فيه المشاكل الاجتماعية -كالفقر المدقع أو القساوة- أدنىَّ انتشارًا، قد يميل الناس إلى تصور أن تلك المشاكل تبقى لائحة، بل أنها على الارجح تتكاثر سوءًا.
توصل فريق من الباحثين يقاد من قبل دانييل جيلبرت -مرتفعِم النفس بجامعة هارفارد- حتّى الناس ينزعون بيسر ودون إدراك إلى تحويل كيفية تعريفهم لمفاهيم معينة، بدءًا من تحديدهم لألوان بعينها ووصولًا إلى تعريفهم لماهية التصرفات غير الأخلاقية، وهذا استنادًا إلى نطاق تتالي تعرُّضهم لتلك المفاهيم. يقول جيلبرت: ’’إن العالم يتطور على جميع الأصعدة تقريبًا، وبالرغم من ذلك، عندما تسأل الناس فإنهم يقولون طول الوقت إنه لا يتطور، وإنه في حقيقة الشأن يتكاثر سوءًا. عندما نقوم بحل المشاكل، يتوسع –دون إدراك منّا– مدى تعريفنا للأشياء التي يمكن اعتبارها مشاكل‘‘.
إن اتساع مدى المفاهيم ليس ملحوظةً حديثة في حاجز نفسه؛ ففي عام 2016، استحدث الطبيب النفسي نيكولاس هازلم من جامعة ملبورن بأستراليا مصطلح "زحف المفاهيم" لوصف اتساع مدى المصطلحات النفسية الجديدة (لا سيما الأمثلة السلبية منها، كإساءة المعاملة، والتنمُّر، والصدمة، والاضطراب السيكولوجي، والإدمان، والتحيُّز) ليشمل حالاتٍ كانت تُصنَّف من قبل على أنها عادية أو غير عدوانية.
في بعض الحالات، حرض اتساع المفاهيم في الإدراك العام –مفاهيم كالاعتداء (ومؤخرًا "الاعتداءات المصغرة" Microaggressions)– جدلًا محتدمًا؛ فيرى بعض المنتقدون أن تلك التحولات تعكس خروجًا لفكرة اللياقة السياسية عن الهيمنة، بينما يزعم القلة أنها تمثل علامةً على تزايد الإدراك المجتمعي. أما جيلبرت فهو غير متيقن كليا من ذلك الشأن، ويقول: ’’إن اتساع مدى واحد من المفاهيم ليس بالضرورة أمرًا جيدًا أو سيئًا؛ فالعلم لا يطرح رأيه بخصوص ما لو كان ذلك شيئًا جيدًا أم سيئًا‘‘. بيسر ينصبُّ مراعاة جيلبرت وآخرين على إستيعاب آلية حدوث هذه الظاهرة.
هناك الكثير من الأسباب التي يُرجَّح أنها تُسهم في تلك التغيُّرات، ومن ضمنها القوى الدافعة السياسية أو الاجتماعية أو الاستثمارية، غير أن التعليم بالمدرسة الأخيرة تركز بؤرة الضوء على عامل آخر محرض للاهتمام. يقول هازلم: ’’تلك هي أول مرة التي يوميء فيها أحدهم حتّى هناك في الواقع آلية إدراكية تستطيع أن تفسر ذلك الشأن‘‘.
في أحدى التجارب التي أجراها فريق جيلبرت البحثي، عرض الفريق على متطوعي التجربة سلسلةً تتركب من ألف نقطة، تتراوح ألوانها بين الأرجواني الصريح والأزرق الصريح، وقد كان على المشتركين تحديد ما إذا كانت كل نقطة من النقاط زرقاء اللون أم لا. وبعد مرور بعض الوقت في خلال التجربة، بدأ الباحثون يعرضون على بعض المشتركين عددًا أدنى من النقاط الزرقاء (ومزيدًا من النقاط أرجوانية اللون أو هذه التي يميل لونها إلى اللون الأرجواني). وبنهاية التجربة كان المشاركون في التعليم بالمدرسة أكثر فرصةً لأن يقولوا: ’’أزرق‘‘ نحو وصفهم لتدرُّجات الألوان الواقعة في منتصف الطيف، بما يشمل بعض النقاط التي في مرة سابقة لهم مشاهدتها وقد كان تقديرهم أنها ’’ليست زرقاء‘‘.
لقد كان ذلك التغيُّر لا إراديًّا، بل إنه وقع عندما جرى تنبيه المتطوعين حتّى تتابع النقاط الزرقاء سوف يقل. ولم يعاون توجيه المشتركين بوجوب حماية وحفظ اتساق إجاباتهم على حظر ذلك التحوُّل، ولا حتى عرض مكافآت مالية يفوز بها المشاركون ذوو الحلول الأكثر اتساقًا. و كان قد النفوذ في الاتجاهين؛ إذ أدى ضد اتجاه التجربة وتزايد توالي النقاط الزرقاء إلى جعل المشتركين أدنى احتمالًا لتصنيف النقاط الواقعة في منتصف مدى الألوان على أنها زرقاء (بعبارة أخرى، تقلص مدى مفهومهم لماهية اللون ’’الأزرق‘‘).
عقب هذا، انتقل الباحثون إلى مفاهيم أكثر تعقيدًا، فعرضوا على المشتركين سلسلةً من الوجوه المُصممة بالحاسوب، في مرة سابقة تصنيفها على نحو منفصل على متسلسلة تتراوح بين ’’غير موحٍ بالتهديد تماما‘‘ و’’موحٍ بالتهديد بقوة‘‘. وقد كان على المشتركين في التجربة تقدير ما لو كان وجهٌ ما من الوجوه المعروضة عليهم موحيًا بالتهديد أم لا. نحو منتصف التجربة، بدأ الباحثون عرض عدد أدنى من الوجوه الموحية بالتهديد على بعض المشتركين، وبنهاية التجربة، بات عند هؤلاء المشتركين نزعة أضخم للحكم على الوجوه البريئة نسبيًّا بأنها تمثل تخويفًا.
في خاتمة المطاف، أعد فريق جيلبرت المئات من نماذج إقتراحات الأبحاث التي جرى تصميمها بحيث تتراوح بين ما من الممكن أن يُطلَق عليه ’’أخلاقي‘‘ و’’مُلتبس‘‘ و’’لاأخلاقي‘‘، وهي نماذج تحققت من سلامتها جهات تقدير مستقلة. (واحد من أمثلة الإقتراحات اللاأخلاقية هو على النحو التالي: يُإلتماس من المشتركين لعق قطعة مجمدة من البراز البشري، وبعدها يحصلون على غسول للفم، ويحدث قياس النسبة المستخدمة من غسول الفم). أما المتطوعون في دراسة جيلبرت فقد طُلب منهم تأدية دور واحدة من هيئات التقدير المؤسسية التي تتابع وترصد مبادىء الشغل بالمشروعات البحثية الجامعية. وقد كان على المتطوعين إما التوقيع على سلسلة من تلك الإقتراحات أو رفضها. ومن حديث، عندما بدأ الباحثون عرض عدد أدنى من الإقتراحات ’’اللاأخلاقية‘‘ على بعض المشتركين، تغير هؤلاء المشاركون إلى رفض المزيد من الإقتراحات ’’الملتبسة على الاستيعاب‘‘ بالمقارنة بما فعلوه في مرة سابقة من التجربة. يقول سكوت ليلينفيلد، أستاذ علم السيكولوجي بجامعة إيموري: ’’إنها دراسة مُبدعة ومثيرة للاهتمام‘‘، ويشير ليلينفيلد حتّى قوة التعليم بالمدرسة تكمن في عرضها للتأثير ذاته عبر عدد من المواقف المتغايرة التي تتراوح بين المشاكل الإدراكية البسيطة وإصدار القرارات الأخلاقية. ويضيف ليلينفيلد، الذي لم يأخذ دورا في ذلك الشغل: ’’سوف يكون التحدي متمثلًا في مشاهدة النطاق الذي قد يصل إليه تعميم التعليم بالمدرسة خارج مدى المختبر في العالم الحقيقي‘‘.
ويمضي فريق جيلبرت قدمًا في أبحاثه عبر الشغل على نماذج حوسبية من الممكن أن يكون من شأنها الدلالة إلى العمليات الفكرية التي تدفع الناس إلى تحويل مفاهيمهم استنادًا إلى نطاق تتالي تعرُّضهم لحالات تنطوي على هذه المفاهيم. وفيما يتعلق لأولئك الذين يحاولون استنباط دروسٍ عملية من النتائج الأولية للفريق، يقول جيلبرت: ’’نحن نُظهر نزوعًا إلى عدم بصيرة خاتمة لمشكلة من المشاكل مطلقًا. قبل أن نسعى إيجاد حل للمشكلة، ينبغي علينا تحديد ما يمكن اعتباره حلًّا لها‘‘. لكن جيلبرت ذاته يعترف بأنه بخصوص ببعض المسائل الواقعية المعقدة، سوف يكون من العسير بشكل كبير تحديد تلك المقاييس.