إن المواقف الساسية تصنع الكثير من اختلافات موازين القوى عبر التاريخ بشكل عام، ولم تخلو الأندلس من مواقف العداء والنفي والانتقام حتى على جانب الممالك القشتالية والليونية والتي كانت جبهة العداء المستحكم ضد العرب في الأندلس، فكانت هناك بعض الشخصيات التي عملت لدى الطرفين نكاية في الطرف الآخر أو لخطة سياسية محكمة الوضع، وكان السيد القمبيطور أحد أشهر الشخصيات التي تجسد فيه مفهوم العمل المزدوج عند النصارى في شمال الأندلس وعند العرب في وسطها وجنوبها.
من هو السيد القمبيطور ؟
السيد القمبيطور: الأسم الأصلي له ” رودريغو دياز دي بيبار RODRIGO DIAZ DE VIVAR ” نسبة إلى منطقة بيبار VIVAR التي ولد بها على حسب التقديرات عام 1045م / 437هـ ، كان أبوه من أصل عريق في مملكة قشتالة ولكنه كان يعيش منعزلًا في ضياعه الكبيرة في قرية بيبار حتى وفاته عام 1058م/ 478هـ فدخل رودريغو في كنف الملك القشتالي فرناندو الأول ملك قشتالة، ربما يتساءل البعض عن تسميته بهذا الإسم، فالمصادر العربية تطليق عليه تلطلق عليه لفظ ” لذريق القنبيطورأو صاحب الفحص “، بينما تلقبه الكتابات القشتالية بـ ” السيد القمبيطور ” ، بعد نشأته في مملكة قستالة دخل رودريغو في خدمة البلاد القشتالي كمحاربًا حتى أصبح من كبار رجال الدولة المحاربين الذي يخشى بأسهم في المملكة وربما تلك الهيبة والقوة هي التي جعلته يدخل في خلاف مع الملك القشتالي ألفونسو الثاني بن سانشو بن فرناندو بعد مقتل الأخير عام 1072م / 465 هـ فقام ألفونسو بعزل رودريغو من قيادة الجيش القشتالي بل تعنت الملك في توجيه كل الصعوبات لوجوده داخل المملكة بل ونفيه منها، وأمام هذا التعنت من جانب ألفونسو قرر رودريغو الخروج من خدمة مملكة قشتالة متوجهًا إلى مملكة برشلونة متمنيًا أن يلقى ترحيبًا من أميرها رامون الثاني ولكن خاب ظنه، فقرر التوجه للدخول في طاعة العرب الأندلسيين حتى دخل في خدمة المعتمد بن عباد في إشبيلية عام 1079م/ 472هـ ثم دخل في طاعة بنو هود في سرقسطة عام 1081م/474هـ .
رحب به المقتدر بن هود وقربه إليه حتى توفي المقتدر ودخل السيد في طاعة المؤتمن الذي كان ينوب عنه في الحروب والقتال ، وقد عاش السيد في كنف بنو هود في سلام وسلطة أكثر مما وجده في بلاط النصارى، فدخل في خدمة الأمير الهودي المؤتمن الذي اعتمد على السيد كثيرًا في حروبه التي استطاع السيد فيها الإنتصار لصالح الأمير الهودي، ثم دخل السيد في خدمة أحمد المستعين بن هود بعد المؤتمن عام478هـ/1085م، وربما لم يكن هذا الولاء الذي أظهره السيد للعرب في الأندلس خالصًا، ففي الوقت الذي ظهرت بسالته في القتال بجانب العرب وبني هود خاصة في معركة المنار عام 478هـ/ 1085م نجده يعود مرة اخرى إلى الجانب القشتالي ويعلن ولاءه لملكه بعد مقتل رجال الملك القشتالي في موقعة روطة مقتلة عظيمة وينفي عن نفسه تهمة الإشتراك في قتلهم محاولًا العودة إلى كنف الملك القشتالي مرة أخرى ولكنه لم يلق قبولًا كبيرًا فعاد مرة أخرى إلى سرقسطة حيث بني هود.
ملحمة السيد
تمتعت هذه الشخصية الأسبانية بكثير من الإهتمام سواء التاريخي أو الأدبي وحازت على جانب كبير من دراسات المهتمين بالتاريخ الأسباني وصورة السيد التاريخية، وكثرت الروايات حول قصة السيد في القرون الوسطى، فـ رامون مينديز بيدال Ramon Menedez Pidalأكثر من سلط الضوء على هذه الشخصية ودروها الأسباني في تلك الفترة التاريخية وأظهر هيبتها القشتالية المتمثلة في ذلك الفارس المغامر المتمرد العنيف في حروبه الملقب بـ” السيد EL CID” وأضاف لها أسم القمبيطور CAMPEADOR ومعناها المنتصر في ساحة المعركة والذي تجسدت فيه القومية الأسبانية المثالية في عصر أسبانيا الوسيط مدافعًا عن صورة السيد المهينة التي تجسدت في رأى دوزي الذي اتهم القمبيطور بالخيانة والبحث عن المكسب الشخصي دون الولاء للوطن، بل وجد فيه بيدال رمزًا للشرف والشجاعة القشتالية حتى أن أحد المؤلفين القشتاليين وضع في حبه للسيد ملحمة كبرى تمت ترجمتها إلى كل اللغات تقريبًا وقام بترجمتها إلى العربية الدكتور الطاهر مكي، أما عن لفظ السيد فهو بالدرجة الأولى متأثرة بلفظ ” سيدي ” العربية والتي من الممكن أن تم تلقيبه به من جانب العرب الذين رافقوه في حملاته وخاصة بعد دوره الكبير في معركة المنار عام478هـ/ 1085م أو أطلق عليه هذا اللفظ خلال حياته معهم بعد لجوءه لخدمة بنو هود ، وقد كان هذا اللجوء لملوك الطوائف أمرًا شائعًا في ذلك الوقت لدى المنبوذين والمنفيين من ملك النصارى.
ظهر دور السيد القمبيطور في خدمة العرب وبني هود بشكل كبير وواضح خلال استيلاؤه على مدينة بلنسية نكاية في الأمير الهودي الآخر المنذر الذي طمع في ضم بلنسية من سلطان أخيه المستعين، فاعتمد المستعين على السيد القمبيطور في استرداد مدينة بلنسية مرة أخرى عام 481هـ/1088م ، ولكن السيد القمبيطور تلاعب بالأمير الهودي واتفق مع الملك القشتالي بأن يمده بالفرسان التي تعينه على أخذ بلنسية من بني هود جميعهم واستطاع الاستيلاء على بلنسية دون الجميع مما يؤكد أن ولاءه القديم لملكه القشتالي لم ينقطع .
النفوذ المستقل للسيد القمبيطور ونهايته
كان استيلاء السيد على بلنسية بداية لمملكة وانتصارات كبيرة ضمها السيد إلى سلطانه المستقل الذي يرغب في استعادة مجد دينه ووطنه في بلاد العرب فحول مسجد بلنسية إلى كاتدرائية وأطلق عليها إسم سانت ماريا ، مما جعل أمراء المرابطين يستهدفونه في قتالهم في أماكن كثيرة في الأندلس مثل بلنسية وشاطبة حتى لقي هزيمته الكبرى على يد القائد المرابطي إبن عائشة ، تلك الهزيمة التي أثرت كثيرًا في قوته حتى اعتل ومات عام 1099م/ 492هـ بعدما شهدت الأندلس حركاته وطموحاته الكبيرة