تَعِد الأديان بنعيم دائم للذين يتبعون طريق الخير ويهجرون طريق السوء والشر بعد الموت؛ الجنة التي هي موطن الحياة الراغدة التي لا يوجد بها شقاء، تشيعُ فيها السعادة، حيثُ تحصل على ما تتمنى بمجرد التفكير، دونما حاجة للعمل والكدح، فلماذا تُعتبر الجنة هي الجائزة الكُبرى والغاية لكل متبعي الديانات؟! لدى علم الاقتصاد الإجابة لهذا السؤال.
كيف تصيغ الأديان فكرة الجنة؟
لدى مُعظم الأديان مفاهيم مُتشابهة تقريبًا للجنة، فهي في النهاية مُكافأة الصبر على الطاعة وهُجران المعصية، فعند الكاثوليك تُعتبر الجنة هي: الهدف النهائي للحياة، حيثُ ينال الإنسان كُل ما يشتهيه، وتتحقق له أتم درجات السعادة وأعلاها، وفيها «مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ، أما عند الأرثوذوكس فإن (الجنة-الفردوس) هي «مكان الراحة والسلام والشركة مع الله التي فقدها آدم وحواء بالسقوط، فطُرِدا من جنة عدن.
كذلك في الإسلام الجنة هي مكان الخلود في النعيم، لا يشقى ولا يهرم من يدخُلها، يقول القُرآن الكريم « إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ، وفيها نعيم يفوق تصور البشر، إذ يقول الله في الحديث القدسي «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرءوا إن شئتم (فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين)
مُعضلات الحياة في علم الاقتصاد
يعيب الحياة على الأرض محدودية الموارد وكثرة عدد السُكان وحاجاتهم المُتعددة التي لا يُمكن للموارد المُتاحة على الأرض إشباعها جميعًا، من هنا يأتي علم الاقتصاد ليحاول حل هذه المُعضلات، والتي اتضح خلال مُحاولات حلها أن صفات الحياة على الأرض هي عكس كُل ما وصفت به الجنة، وتدُل مُصطلحات علم الاقتصاد في مُعظمها على هذه الصفات، من ذلك:
النُدرة «Scarcity»
فكرة النُدرة هي محور علم الاقتصاد، من حيثُ كونها مصدر المُشكلة الاقتصادية. وتُعرف المشكلة الاقتصادية بأنها: الندرة أو المحدودية المُطلقة للموارد الاقتصادية، أو ندرتها النسبية في مقابل الرغبات والمطالب غير المحدودة للإنسان، إذ تتصف جميع الموارد الطبيعية على الأرض بالنُدرة سواء المُطلقة أو النسبية، والنُدرة المُطلقة، هي وجود العُنصر بكميات لا تكفي لإشباع الحاجات المطلوبة منه على الدوام، كالغذاء، والتي لا تكفي الكميات المُنتجة منه مهما بلغت كميتها لإشباع حاجة كافة البشر للغذاء في كافة أرجاء المعمورة، أما النُدرة النسبية: هي وجود العُنصر بكميات لا تكفي لإشباع الحاجات المطلوبة منه في وقت مُعين كالهواء مثلا، عند الغوص تحت الماء.
كذلك على المُستوى الفردي فمهما بلغت مدخولات الفرد وثروته فإنه يواجه مُشكلة النُدرة، بمعنى أنه لا يستطيع الحُصول على كُل ما يرغب، بالتالي يكون الإنسان أمام اتخاذ قرارات بالحصول على أشياء مُقابل التخلي عن أشياء أُخرى طوال حياته[، فإما أن يشتري قميص أو حذاء، أو أن يشترى طائرة خاصة أو يستثمر ثمنها في مشروعات تُدر عليه عائد، مُشكلة النُدرة تدفعنا بالتالي إلى عملية الاختيار من بين البدائل المُتاحة، فعندما لا نستطيع الحصول على كُل حاجاتنا نبدأ في المُفاضلة بينها وترتيبها حسب الأولوية، ما يدفعنا إلى التضحية ببعضها في مُقابل الحصول على البعض الآخر فيما يُسميه علم الاقتصاد تكلفة الفُرصة البديلة «Opportunity Cost»
المنفعة «Utility»
تُعرف المنفعة بانها قُدرة الشيء على إشباع الحاجة، كقُدرة اللحم على إشباع الحاجة للطعام، أو الكتاب على إشباع الحاجة للمعرفة، وهذه الحاجة إلى السلعة تختلف من شخص إلى آخر، بل وتختلف عند الشخص نفسه من وقت لآخر، فالأشخاص يختلفون في حاجاتهم إلى السيارة مثلا، بل إن الشخص نفسه تختلف حاجته إليها من حين لآخر.
وقد فرق عُلماء الاقتصاد بين نوعين من المنفعة، أولًا-المنفعة الكُلية وهي: مجموع المنافع التي يحصل عليها المستهلك نتيجة استهلاكه لوحدات مُتماثلة من سلعة ما وفي مدة زمنية معينة، والمنفعة الكلية تتزايد مع تزايد عدد الوحدات المستهلكة من السلعة، لكن تزايُدها هذا يحدُث بمُعدل مُتناقص، أي أن الوحدة الأولى تُحقق قدرًا من الإشباع أكبر من الوحدة الثانية، والثانية تُحقق قدرًا من الإشباع أكبر من التي تليها، من هنا يظهر النوع الثاني من المنفعة وهو المنفعة الحدية «Marginal utility» وهي مقدار الزيادة في المنفعة الكلية الناجمة عن استهلاك وحدة إضافية من السلعة، ولأن كُل وحدة إضافية من السلعة تُحقق إشباع أقل، فإن المنفعة الحدية تكون دائما متناقصة فيما يُطلق عليه قانون تناقص المنفعة الحدية.
أي أنك في هذه الحياة لن تحصل أبدًا على الرضا أو الإشباع من استهلاك أو عمل أو أداء نوع واحد من المُنتجات أو الخدمات، ذلك أنك كُلما جربت أحدها يقل الرضا أو الإشباع الذي يتحقق من تجربة المزيد منها أو المنفعة التي تحصُل عليها منها، فمثلًا لو تذكرت أول مرة تناولت وجبتك المُفضلة، ذهبت للشاطئ، أو لعبت ألعاب الفيديو، لن يكون أبدًا ذات الشعور بالرضا بعد تكرار ذات العمل مرات ومرات، حيث نجد أن كُل مرة يقل الرضا أو الإشباع الذي تحصُل عليه من استخدام المزيد، معنى ذلك أنه لا توجد سعادة دائمة في الدُنيا، فالسعادة شُعور مؤقت يقترن باستعمال وشراء الجديد من السلع والخدمات، كما نجد أن السعادة الدائمة -فضلًا عن السعادة بشكل عام- يصعُب تحقيقها والوصول إليها.
الاختيار بين العمل والراحة
يجد الإنسان نفسه طوال الوقت في خيار بين العمل والراحة، وهو خيار بين الحياة والموت، فعمل دائم دون راحة يجلب مزيدًا من الدخل، يؤمن له الحصول على كثير من احتياجاته، لكنه يُؤدي بالإنسان إلى الموت المُحقق، كذلك فإن الراحة الدائمة دون عمل، لن تُعرض الإنسان للإجهاد، لكنه في ذات الوقت لن يستطيع الحصول على دخل يوفر احتياجاته الأساسية من مأكل ومشرب، بالتالي ستؤدي إلى موت الإنسان المُحقق، لذلك يوازن الإنسان العادي بين العمل والراحة بحيث يُحقق دخل يسمح له بتوفير احتياجاته وفي ذات الوقت ينال قدر من الراحة التي تسمح له بمواصلة العمل، لكن ذلك يعني أنه يفقد جزء من الدخل وبالتالي جُزء من احتياجاته تظل دائمًا غير مُحققة، بالإضافة إلى فُقدان جُزء من الراحة.
الجائزة الكُبرى
تعد الأديان المؤمنين بالجنة والتي تعفيهم وتُخلصهم من مُعضلات الحياة، فلا نُدرة فيها، الجنة مكان حيث كُل شيء مُتاح بالكميات والتنوع المُطلوب لتكفي سد جميع احتياجات ساكنيها، ولذلك هي المكان الذي تتحقق فيه السعادة التامة بسبب هذا التنوع من السلع والمُنتجات التي يحتاجها الإنسان حتى أنه فيها من السلع ما لم يخطُر على بال بشر، وأخيرًا فإن كُل ذلك يأتي للإنسان دون عمل وهو في راحة تامة، دون بذل أي جُهد أو تعب، لذلك فإن الجنة تظل أمل جميع المؤمنين الأغنياء منهم والفُقراء، لأنها المكان الوحيد الذي تتحقق فيه السعادة… السعادة التامة والدائمة.